Mufti Muhammad Taha Karaan (RA) on a Woman Covering Her Face in the Shafi’i Madhhab
بسم الله الرحمن الرحيم
سئلت عن حكم ستر المرأة وجهها ويديها في المذهب، فأجبت بأن ذلك ليس واجبا عليها، وهو الذي جرى عليه ابن حجر في التحفة، خلافا للرملي والخطيب، والذي جرى عليه ابن حجر هو الراجح مذهبا ودليلا.
ثم رأيت أن أفصل الكلام في المسألة بعض التفصيل، فكتبت ما يلي:
لا يبعد أن يقع اشتباه بين هذه المسألة ومسألة النظر إلى وجه الأجنبية ويديها، لذا رأيت أن أبين حكم النظر قبل الخوض في حكم الستر.
للنظر إلى وجه الأجنبية ويديها ثلاثة أحوال:
أحدها: حيث يكون بالشهوة، فالنظر حرام قطعا.
والثاني: حيث تخشى الفتنة، فالنظر حرام بلا خلاف أيضا.
أما الحال الثالث: وهو ما إذا لم تكن شهوة ولا تخشى فتنة، فهذا موضع اختلاف في المذهب:
فذهب أكثر الأصحاب لا سيما المتقدمون إلى عدم التحريم، لكن زاد الشيخ أبو حامد وغيره إثبات الكراهة.
وذهب أبو سعيد الإصطخري وأبو علي الطبري إلى التحريم في هذه الحالة أيضا، واختاره الشيخ أبو محمد وابنه الإمام، وبه قطع الشيرازي والروياني، وإياه صحح الرافعي والنووي، فهو المذهب.
هذا، والنظر في مسألة النظر قد يؤدي بالناظر إلى الظن بأنه لما لم يجز النظر إلى وجهها ويديها كان عليها أن تستر هذه الأعضاء وجوبا، إلا أن لمسألة الستر والكشف تفصيلا مستقلا في المذهب لا نحتاج معه إلى استنتاج موقف المذهب من خلال مسألة النظر، فالمقام مقام نقل لا محل استنتاج.
فإذا توجهنا إلى النقل في المسألة وجدنا شراح المنهاج الشهاب ابن حجر والشمس الرملي والخطيب الشربيني اختلفوا فيها على رأيين:
• فابن حجر يرى عدم وجوب الستر لذاته، بل للمصلحة العامة؛
• والخطيب والرملي يريان وجوب الستر لذاته.
ولكل من الرأيين أساس يعتمد عليه صاحبه، وإليك بيانه:
قال ابن حجر في التحفة (7/193) بعد النقل عن إمام الحرمين اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، قال: ولا ينافي ما حكاه الإمام من الاتفاق نقلَ المصنف عن عياض الإجماع على أنه لا يلزمها في طريقها ستر وجهها، وإنما هو سنة، وعلى الرجال غض البصر عنهن للآية، لأنه لا يلزم من منع الإمام لهن من الكشف لكونه مكروها – وللإمام المنعُ من المكروه لما فيه من المصلحة العامة – وجوبُ الستر عليهن بدون منع، مع كونه غير عورة، ورعاية المصالح العامة مختصة بالإمام ونُوَّابه.اهـ
يستفاد من كلامه هذا -رحمه الله-:
– أن الوجه والكفين ليس من العورة، فالأصل فيها عدم وجوب الستر.
– ثم الاتفاق الذي حكاه إمام الحرمين إنما هو شيئ يلزم الإمام الناس به للمصلحة لا لموجب شرعي أصيل، فلا ينافي الإجماع على أصل الجواز الذي نقله القاضي عياض وأقره عليه النووي.
ورد الخطيب والرملي هذا الجمع بما يلي:
قال الرملي في النهاية (6/188): وما نقله الإمام من الاتفاق على منع النساء – أي منع الولاة لهن – معارض لما حكاه القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة، وعلى الرجال غض البصر عنهن للآية، وحكاه المصنف [النووي] عنه في شرح مسلم وأقره عليه، ودعوى بعضهم عدم التعارض في ذلك إذ منعهن ليس لكون الستر واجبا عليهن في ذاته بل لأن فيه مصلحة عامة وفي تركه إخلال بالمروءة – مردودة، إذ ظاهر كلامهما [أي النووي والرافعي] أن الستر واجب لذاته، فلا يتأتى هذا الجمع، وكلام القاضي ضعيف.اهـ
ومثله كلام الخطيب في المغني (4/209).
يظهر منه أن تمسكهما في إيجاب الستر عليها هو ظاهر صنيع الشيخين لا غير، لكن هذا الاستظهار يضعف إلى جانب إقرار النووي للقاضي عياض في دعوى الإجماع، فالاستظهار شيئ لا يصار إليه إلا عند فقد التصريح، والإقرار في قوة التصريح، فلا ينبغي بل لا يصح أن يستظهر من صنيع النووي شيئ يخالف تصريحه، وإذا لم يصح أن ينسب لساكت قول – وهي قاعدة مشهورة لإمامنا الشافعي – فأنى يصح أن ينسب إلى مصرِّح قول يخالف تصريحه؟
وللرشيدي اعتراض على الرملي، فإنه يرى أن الرد الذي وجهه الرملي – وكذا الخطيب – إلى ابن حجر ليس في محله، قال في حاشيته على النهاية: هذا لا يلاقي ما ادعاه هذا البعض، لأن حاصل دعواه أن ما حكاه الإمام من الاتفاق على منع النساء لا يلزم منه أن ذلك لوجوب سترها وجهها في طريقها، وإن فهمه منه الإمام حتى وجهه به، بل يجوز أن يكون للمصلحة التي ذكرها، وهذا لا محيد عنه، ولا يصح رده بأن ظاهر كلامهما ما ذكر لأن المعارضة التي دفعها ليست بين الجواز التي ذكره القاضي عياض والحرمة، وإنما هو بينه وبين الاتفاق على منع النساء كما سبق.اهـ
قلت: الذي ظهر لي – والله أعلم – أن منشأ الرد الرملي والخطيب سليم من وجهة نظرهما، ذلك بأن ردهما يقوم على عدم الحاجة إلى هذا الجمع، لأن الجمع لا يكون إلا بين مسلَّمين، ووهما لا يسلمان دعوى عياض، مع أن المذهب عندهما – بناء على استظهارهما موقف الشيخين – وجوب الستر لذاته، فمن تقرر عنده أن المذهب وجوب الستر لذاته، وأن دعوى الإجماع غير صحيحة، لا يحتاج إلى الجمع.
أما من يستوحي المذهب من إقرار النووي لعياض ثبت عنده أن المذهب ليس وجوب الستر لذاته، فإذا لم يجب لذاته فلا بد من توجيه الاتفاق الذي حكاه الإمام كي يتلاقى مع ما أقر النووي عياضا عليه، وهذا الذي حدا بابن حجر إلى الجمع بينهما بأن المنع الذي حكاه الإمام ليس حكما شرعيا أصيلا، وإنما هو من باب المصلحة العامة التي للسلطان الحق في إلزام الناس به.
وأخيرا، فإن ترجيحي لرأي ابن حجر على رأي الرملي والخطيب مبني على ترجيح الإقرار الذي هو في قوة التصريح على الاستظهار الذي لا يصار إليه إلا عند إعواز التصريح.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله في البدء والختام